حوكمة الشركات وبناء القدرات خطوة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة

حوكمة الشركات وبناء القدرات خطوة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة
في ظل تسارع التحولات الاقتصادية والبيئية عالميًا، تزداد الحاجة إلى مؤسسات قوية وقادرة على التكيف مع التحديات المستقبلية، وقد شهدت مصر، خلال الأعوام الأخيرة، تحركًا نوعيًّا نحو تعزيز نظم الحوكمة وبناء القدرات المؤسسية، في سياق التزامها برؤية مصر 2030، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، خاصة الهدفين (16) و(17) المتعلقين ببناء مؤسسات فعالة وتعزيز الشراكات.
ومن هذا المنطلق، تستعرض حماة الأرض في هذا المقال العلاقة المتشابكة بين حوكمة الشركات، وبناء القدرات المؤسسية، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، من منظور يتجاوز الشعارات النظرية إلى الممارسات الفعلية؛ فالتحديات التي تواجه المؤسسات اليوم لا يمكن تجاوزها دون ترسيخ ممارسات الحوكمة الرشيدة، وتطوير بنية مؤسسية مرنة وقادرة على التكيف، وسوف نستعرض كيف تُمثّل هذه العناصر الثلاثة دعائم متكاملة لنموذج تنموي جديد، يسعى إلى تحقيق استدامة مؤسسية حقيقية تُسهم في بناء مستقبل أكثر توازنًا وإنصافًا.
الحوكمة المؤسسية أساس الشفافية والثقة
تُعد حوكمة الشركات اليوم أداة استراتيجية متقدمة لإدارة المخاطر، وتعزيز الشفافية، وترسيخ ثقة أصحاب المصلحة، ما يجعلها ركيزة أساسية في مسار النمو الاقتصادي المستدام، ومع تزايد الضغوط الاجتماعية والبيئية، تتضح الحاجة إلى مؤسسات تمتلك الكفاءة والقدرة على إدارة مواردها والتزاماتها برؤية تنموية طويلة المدى.
وقد شهد مفهوم الحوكمة المؤسسية تطورًا عالميًّا ملحوظًا؛ إذ تحوّل من كونه إطارًا رقابيًّا إلى منظومة متكاملة لإدارة المؤسسات بكفاءة وعدالة واستباقية، تأخذ في الاعتبار العلاقة المعقدة بين أصحاب المصلحة والمجتمع والبيئة. وفي مصر بدأت معالم هذا التحول تتجلى مع إصدار أول دليل وطني لحوكمة الشركات عام 2005، والذي صاغه مركز المديرين المصري (EIoD)، التابع للهيئة العامة للرقابة المالية، وكان ذلك استنادًا إلى مبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)؛ الأمر الذي ساعد على تأسيس بيئة أعمال أكثر شفافية ومسئولية.
وتُسهم الحوكمة المؤسسية الفعالة في تحسين جودة الإفصاح، وضبط المسئوليات، وتقليص فرص التلاعب؛ مما يدعم ثقة المستثمرين ويحفّز تدفق رؤوس الأموال نحو الأنشطة الإنتاجية المستدامة، وفي هذا الإطار، تندمج الحوكمة مع الاستدامة المؤسسية لتشكّلا معًا مسارًا متكاملًا يعيد تعريف دور المؤسسة بوصفها طرفًا فعَّالًا في تحقيق التنمية المستدامة.
بناء القدرات المؤسسية شرط للتحول المستدام
وانطلاقًا من هذا الفهم الموسّع للحوكمة، تتضح أهمية الانتقال من الإطار النظري إلى التطبيق العملي، وهو ما يُحتم بناء قدرات مؤسسية قادرة على استيعاب هذه المنظومة وتفعيلها بفعالية على أرض الواقع؛ فالمؤسسة التي تملك هيكلًا إداريًّا فعّالًا، وقيادات مدربة، وآليات اتخاذ قرار رشيدة، تكون أكثر قدرة على توجيه استراتيجياتها نحو تحقيق التنمية المستدامة.
ويشمل بناء القدرات المؤسسية تطوير المهارات القيادية، وتعزيز الكفاءات الفنية، وتحسين نظم العمل الداخلية، فضلًا عن ترسيخ ثقافة الحوكمة في جميع المستويات التنظيمية، وهذا التوجه لا يخدم فقط المؤسسات الكبيرة، وإنما يعد ضروريًّا أيضًا لتمكين المشروعات الصغيرة والمتوسطة من الاندماج في الاقتصاد المستدام.
الإفصاحات البيئية والاجتماعية
في السنوات الأخيرة، أصبح الإفصاح الاجتماعي والبيئي عنصرًا أساسيًّا في تقارير الأداء المؤسسي، ومع توجه المؤسسات المصرية لتقديم تقارير متوافقة مع معايير الاستدامة الدولية، برزت الحاجة إلى تصنيف هذه الإفصاحات وتقييمها وفقًا لمنهجيات واضحة، تضمن مصداقية البيانات وتحفّز على تحسين الأداء.
ويمثل هذا النوع من الإفصاح أداة محورية لربط خطط الشركات بأهداف التنمية المستدامة، سواء من خلال إدارة الانبعاثات، أو كفاءة استهلاك الموارد، أو الممارسات العادلة تجاه العمال والمجتمعات، وكلما زادت جودة الإفصاح، ارتفع مستوى الثقة في المؤسسة، وازداد احتمال توجيه الاستثمارات نحوها.
الشركات أطراف فعالة في تحقيق التنمية المستدامة
لم تعد الشركات اليوم كيانات اقتصادية منفصلة عن المجتمع، وإنما أصبحت أطرافًا أساسية في تنفيذ أجندة التنمية المستدامة، ويبرز الهدف (17) من أهداف التنمية المستدامة، الذي يدعو إلى “عقد الشراكات لتحقيق الأهداف”، باعتباره إطارًا توجيهيًّا يحث القطاعين العام والخاص على التعاون من أجل تحقيق الأثر المطلوب.
وفي هذا السياق، يُعد إطلاق أول سوق منظم للكربون الطوعي في مصر، الذي أطلق عام 2024، خطوة متقدمة تعكس التقاء الحوكمة مع الابتكار والرقابة المالية لدعم التحول الأخضر، وتبرهن على أن انخراط المؤسسات في قضايا البيئة والمناخ بات جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيات الأعمال.
تكامل الحوكمة وبناء القدرات من أجل مؤسسات فعالة
ومع تنامي هذا الدور، يصبح من الضروري تحويل المبادئ الكبرى إلى ممارسات مؤسسية يومية تُرسّخ ثقافة الاستدامة في جوهر الأداء المؤسسي، وهنا يأتي دور التكامل بين الحوكمة وبناء القدرات، بما يخلق بيئة تنظيمية مرنة، قادرة على التكيف، وموجهة نحو الاستدامة.
تشمل خطوات هذا التكامل، تطوير التدريب المهني، وإدماج مبادئ الاستدامة في السياسات الداخلية، وتعزيز التحول الرقمي، وتحسين نظم المتابعة والتقييم، كما يُستحسن أن يُدرج مفهوم الاستدامة المؤسسية ضمن مؤشرات الأداء الرئيسية؛ ليصبح جزءًا من منظومة صنع القرار.
وختامًا، تؤكد مؤسسة حماة الأرض أن حوكمة الشركات وبناء القدرات المؤسسية ليسا مجرد أدوات إدارية، وإنما يمثلان المدخل الجوهري لتحوّل مؤسسي حقيقي قادر على مواكبة تحديات العصر والوفاء بالتزامات التنمية المستدامة؛ فمع كل أزمة اقتصادية أو بيئية جديدة، تتكشف الحاجة إلى مؤسسات تتمتع بالكفاءة، والمرونة، والرؤية بعيدة المدى، وكل هذا لا ينبى إلا من خلال ترسيخ مبادئ الحوكمة وتكاملها مع نهج منهجي لبناء القدرات.
إن دمج البعد الاجتماعي والبيئي في صميم العمل المؤسسي، واعتماد الإفصاح الشفاف، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية، تمثل ركائز لا غنى عنها لبناء مؤسسات مسؤولة ومؤثرة، وفي حين تمضي مصر في تنفيذ رؤية 2030، يبقى دور الشركات والمجتمع المدني فعالًا في صياغة نموذج تنموي جديد يتسق مع أهداف الاستدامة العالمية، ويعيد تعريف النجاح المؤسسي بمعايير تتجاوز الربحية لتشمل العدالة، والحوكمة، والاستقرار طويل الأمد.







