علوم مستدامة

خطوة علمية كبيرة نحو إنتاج الأمونيا “الخضراء” والأسمدة “الخضراء”

طريقة جديدة لالتقاط وفصل الأمونيــــا في عملية هابر-بوش

خطوة علمية كبيرة نحو إنتاج الأَمُونْيَا “الخضراء” والأسمدة “الخضراء”

تعتبر عملية تصنيع الأَمُونْيَا (النشادر) –المكون الرئيسي في الأسمدة– عمليةً كثيفةَ الاستهلاك للطاقة، ومساهمًا كبيرًا في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، التي تشارك بدورها في زيادة ظاهرة تغير المناخ وما يتعلق بها من آثار سلبية. ولتحسين كفاءة الطاقة في هذه العملية، قام الكيميائيون بتصميم وتصنيع مواد مَسَامِّيَّةٍ من هياكل فِلِزِّيَّةٍ عضوية (MOFs)، يمكنها التقاط وفصل الأَمُونْيَا الناتجة عن العملية الإنتاجية عند ضغوط ودرجات حرارة معتدلة، مقارنةً بالضغوط ودرجات الحرارة التي تتطلبها عملية هابر-بوش القياسية. لا ترتبط هذه المواد المَسَامِّيَّةُ بأي من المواد المتفاعلة، مما يجعل عملية التقاط الأَمُونْيَا وفصلها أقل استهلاكًا للطاقة، وبالتالي أكثر اخضرارًا.

كما نعلم، فإنَّ الإنتاجَ الصناعيَّ للأمونيا يُوَجَّه بشكل أساسي نحو صناعة الأسمدة، فهذه المادة -التي يعتبرها كثيرون وقودَ الثورة الزراعية في القرن الماضي- تشكل أحد أكبر أسواق المواد الكيميائية في العالم، إلا إنها في الوقت نفسه أحد أكثر الصناعات المستهلِكة للطاقة.

ما عملية هابر-بوش؟

علَى الصعيد العالمي، تُستخدم عملية هابر-بوش (Haber-Bosch) لصنع الأَمُونْيَا، وتستهلك هذه العملية حوالي 1٪ من جميع أنواع الوقود الأحفوري، وتنتج نسبة 1٪ من جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، مما يجعلها مساهمًا رئيسيًّا في تغير المناخ.

ولمن لا يعلم، فعملية هابر-بوش هي المَمَارَسَةُ الصناعيةُ القياسيةُ لإنتاج الأَمُونْيَا، وقد تم ابتكارها بواسطة الكيميائي الألماني «فيتز هابر» في 1909، وبعد ذلك قام الكيميائي الألماني أيضًا «كارل بوش» بتطوير هذه الطريقة للاستخدام الصناعي، ليُطلَق عليها بعد ذلك اسمَ «هابر-بوش». تُحَوِّلُ العمليةُ النيتروجينَ من الهواء الجوي (N2) إلى الأمونيا (NH3)، عن طريق التفاعل مع الهيدروجين (H2)، باستخدام عامل حفَّاز فِلِزِّيٍّ، وتحت درجات حرارة مرتفعة (400-550 درجة مئوية) وضغوط عالية (100-250 ضغط جوي)، وهو ما يتطلب استخدام كميات كبيرة من الوقود الأحفوري، وبالتالي انبعاث كميات ضخمة من غازات الاحتباس الحراري.

الكيميائيون في جامعة كاليفورنيا تمكنوا من أخذ خطوة كبيرة نحو جعل إنتاج الأَمُونْيَا أكثر صداقةً للبيئة، وهو ما يعني بالضرورة تحقيق مفهوم «الأَمُونْيَا الخضراء» و«الأسمدة الخضراء»؛ ليساهم ذلك في جعل الزراعة أكثر استدامة.

العقبة الرئيسية التي واجهت الباحثين في صنع الأَمُونْيَا -بمدخلات طاقة أقل- هي عملية التقاط وفصل الأَمُونْيَا الناتجة عن المواد المتفاعلة (النيتروجين والهيدروجين بشكل أساسي)، وذلك دون اللجوء إلى درجات الحرارة والضغوط العالية التي تتطلبها عملية هابر-بوش، حيث يحدث هذا التفاعل عند درجات حرارة مرتفعة، قد تتجاوز الـ 500 درجة مئوية، إلا إنَّ عمليةَ فصلِ الأمونيا تتم عن طريق تبريد الغاز إلى ما يقرب من -20 درجة مئوية، ما يسمح بتكثف الأمونيا الغازية -عند هذه النقطة- إلى سائل.

مادة مبتكرة لفصل الأمونيـا

يمكن أنْ تفتح الطرقُ البديلةُ لالتقاط وفصل الأَمُونْيَا البابَ أمام عمليات إنتاج للأمونيا تعمل في ظل ظروف أقل حدة من الظروف القياسية لعملية هابر-بوش؛ لذا صمم الكيميائيون في جامعة كاليفورنيا في بيركلي موادًّا مَسَامِّيَّةً من الأُطُرِ الفِلِزِّيَّةِ العضوية (MOFs)، التي يمكنها التقاط وفصل الأَمُونْيَا عند ضغوط ودرجات حرارة معتدلة (حوالي 175 درجة مئوية)؛ وذلك بسبب أنَّ هذه الأُطُرَ لا ترتبط بأي من المواد المتفاعلة، وبالتالي يمكنها التقاط الأمونيا وإطلاقها دون الحاجة إلى تبريد العملية إلى -20 درجة؛ ومن ثَمَّ إعادة التسخين مَرَّةً أخرى من البداية، وهو ما يعني حدوث توفير كبير في الطاقة.

إنَّ الأُطُرَ الفِلِزِّيَّةَ العضويةَ -التي تم الكشف عنها لأول مَرَّةٍ في تسعينيات القرن الماضي- يمكن وصفها بأنها أنظمة بلورية تتكون من أيونات الفلزات، التي ترتبط ببعضها عن طريق ذرة أو أيون مركزي، بواسطة الربيطات العضوية (Ligand)، وهي موادٌّ مَاصَّةٌ تتميز بمساحة سطح كبيرة.

وقال «بنجامين سنايدر» -زميل ما بعد الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، والذي قاد البحث-: «يتمثل التحدي الكبير في خفض انبعاثات الكربون المرتبطة بإنتاج الأسمدة في العثور علَى مادة يمكننا من خلالها التقاط كميات كبيرة جدًّا من الأمونيا، ثم فصلها بشكل مثالي، مع الوصول إلى الحد الأدنى من مدخلات الطاقة، وهذا يعني أننا لن نضطر إلى استخدام كثير من الحرارة للحصول علَى الأمونيا. وبالمثل، عندما نقوم بفصل الأمونيا لا نريد أن ينتج عن ذلك فُقْدَانٌ كثيرٌ في الحرارة».

تتمثل إحدى الميزات الرئيسية للعملية المطوَّرةِ الجديدة، أنها تعمل في درجات حرارة وضغوط منخفضة؛ وبالتالي يمكن أنْ يتم إنتاج الأمونيا -وكذلك الأسمدة- في منشآت أصغر وأقرب إلى المزارعينَ، بدلًا من إنتاجها في المصانع الكيميائية المركزية الكبيرة.

وقال سنايدر: «الهدف هنا هو تمكين التكنولوجيا، بحيث يكون للمزارعين -في بعض المناطق المحرومة اقتصاديًّا حول العالَمِ الآن- الحصول بشكل أكثر سهولةً علَى الأمونيا التي يحتاجونها لزراعة محاصيلهم، ويجب علينا التوضيح هنا أنَّ بحثنا لم يحل هذه المشكلة تمامًا، لكننا طرحنا طريقة جديدة للتفكير في كيفية استخدام الأُطُرِ الفِلِزِّيَّةِ العضوية في التقاط الأمونيا من عملية هابر-بوش المعدلة، وأعتقد أنَّ هذه الدراسة تمثل تقدمًا مهمًّا حقًّا في هذا الاتجاه».

ومن الجدير بالذكر، أنَّ «سنايدر» و«جيفري لونج» -كبير مؤلفي الورقة، وأستاذ الهندسة الكيميائية والجزيئية الحيوية في جامعة كاليفورنيا- قد نشَرَا تفاصيل الدراسة في مجلة «nature».

وقال لونج: «هذا العمل له أهمية أساسية، لأنه يكشف عن آلية جديدة لالتقاط غاز الأمونيا، ونحن متفائلون بأنَّ هذه الآلية ستمتد لتشمل عددًا من الصناعات الهامة الأخرى، التي يمكن بها تطويع الأُطُرِ الفِلِزِّيَّةِ العضويةِ».

عملية هابر-بوش «الخضراء»

وفقًا لـ «سنايدر»، يعمل عديدٌ من الباحثين علَى إيجاد طرق لجعل عملية هابر-بوش أكثر استدامةً. ويتضمن هذا إنتاج إحدى مواد التفاعل الرئيسية -الهيدروجين- باستخدام الطاقة الشمسية، وذلك عن طريق تحليل الماء إلى عنصري الهيدروجين والأكسجين، حيث إنَّ المتعارفَ عليه في صناعة الأمونيا حاليًّا هو أنَّ الهيدروجين اللازم للعملية يأتي من تفاعل تكسير الغاز الطبيعي (الميثان)، إلا إنَّ هذا التفاعل الأخير يُنتج كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون.

تشمل التعديلات الخضراء الأخرى في عملية إنتاج الأمونيا استخدامَ مواد حفّازة جديدة، تعمل في درجات حرارة وضغوط منخفضة تسمح بتفاعل الهيدروجين مع النيتروجين؛ لتكوين الأمونيا. لكنَّ عمليةَ إزالةِ الأمونيا من وسط التفاعل ظلت عقبةً رئيسيةً، وقد جَرَّبَ البعضُ استخدامَ مجموعةٍ مِن المواد المَسَامِّيَّةِ الأخرى -مثل الزيوليت- لالتقاط وفصل الأمونيا، إلا إنها كانت غير قادرة علَى امتصاص وإطلاق كميات كبيرة، كما تمت تجربة بعض الأُطُرِ العضويةِ الفِلِزِّيَّةِ الأخرى من قِبل بعض الباحثين، إلا إنها تعرضت للتآكل بسبب الخصائص القوية لغاز الأمونيا.

كان ابتكار «سنايدر» تجربةَ مجموعةٍ جديدة -متنوعة نسبيًّا- من الأُطُرِ العضوية الفِلِزِّيَّةِ، التي تستخدم ذرات من النحاس مرتبطة بجزيئات عضوية تسمى «الهكسان الحلقي ثنائي الكربوکسیلات»؛ وذلك لإنشاء هيكل صلب وعالي المَسَامِّيَّةِ من الأُطُرِ العضويةِ الفِلِزِّيَّةِ. الفريد في هذا الإطار المبتكر هو أنه لم يتآكل عند تجربته بسبب الأمونيا، وإنما تحول إلى خيوط من النحاس والبوليمر، الذي يحتوي علَى الأمونيا بكثافة عالية للغاية. وعلاوة علَى ذلك، فإن خيوط البوليمر هذه يمكنها إطلاق الأمونيا المرتبطة بها بكل سهولة عند درجات حرارة منخفضة نسبيًّا، مما يعيد المادة إلى هيكلها الأَوَّلِيِّ الصلب المَسَامِّيِّ المستخدم في بداية العملية.

وعلق «سنايدر» علَى ذلك بقوله: «عندما تعرض هذا الإطارُ العضويُّ الفِلِزِّيُّ للأمونيا، تغير هيكله بالكامل من مادة ثلاثية الأبعاد وشديدة المَسَامِّيَّةِ إلى مجموعة من الخيوط التي تمتص الأمونيا بشكل ضخم، ولكن المثير في الأمر أنه بعد فصل الأمونيا عن هذه الخيوط قامت بتشكيل نفسها مَرَّةً أخرى إلى هيكل ثلاثي الأبعاد».

استخدامات مستقبلية واعدة

اكتشف «سنايدر» أيضًا أنَّ هذه الأُطُرَ العضويةَ الفِلِزِّيَّةَ يمكن ضبطها لامتصاص وإطلاق الأمونيا تحت نطاق كبير من الضغوط، مما يجعلها أكثر قابليةً للتكيف مع أي ظروف تفاعل يتضح أنها الأفضل لإنتاج الأمونيا بكفاءة أكبر وبشكل مستدام.

نستنج مما سبق أنَّ الأُطُرَ العضويةَ الفِلِزِّيَّةَ المبتكرةَ تتفرد بأنه يمكن ضبطها بالشكل المناسب طبقًا لظروف التفاعل؛ ومِن ثَمَّ إذا توصل الباحثون إلى مجموعة محددة من شروط التفاعل، فيمكنهم حينئذٍ تعديل المتغيرات الخاصة بالأُطُرِ العضويةِ الفِلِزِّيَّةِ؛ حتى تتوافق -بشكل وثيق- مع هذا التطبيق المحدد.

وعلَى الرغم من النتائج الواعدة للمادة الجديدة، فإنَّ «سنايدر» أكد أنَّ التقاطَ الأمونيا مجردُ جانبٍ واحدٍ من أي عملية مستقبلية لصنع أمونيا أكثر اخضرارًا، حيث يجب النظر أيضًا في باقي جوانب هذه العملية بشكل شامل؛ وذلك لتحويل هذه الصناعة لتكون صناعةً مستدامةً بشكل حقيقي.

واختتم «سنايدر»، قائلًا: «هناك كثير من الباحثين الأكفاء الذين يعملون علَى إعادة تصميم عملية هابر-بوش، بما يسمح لها بالعمل في ظل درجات حرارة وضغوط أكثر اعتدالًا. ما توصل إليه فريقي البحثي هو طريقة جديدة مبتكرة لالتقاط وفصل الأمونيا الناتجة عن العملية الصناعية بشكل فَعَّالٍ، لتكون بذلك جزءًا مستقبليًّا من أي عملية معدلة لتصنيع هذا الغاز المهم».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى