أمطار الإسكندرية.. هل القاهرة هي التالية؟
أمطار الإسكندرية.. هل القاهرة هي التالية؟
في مشهد غير معتاد في مثل هذا التوقيت من العام، شهدت الإسكندرية موجة طقس عنيفة حولت بعض شوارعها إلى مجارٍ مائية، وتسببت في ارتباك واسع للحركة اليومية، وتساقط البَرَد، ورافقت الأمطار رياح قوية أربكت السكان، وسط أصوات رعد متقطعة ومشهد جوي غير مألوف، ورغم أن مثل هذه الظواهر ليست الأولى من نوعها، فإن تكرارها خارج الموسم المعتاد بات مؤشرًا واضحًا على تغيرات مناخية متسارعة بدأت تطبع سلوك الطقس في مصر بسمات أكثر اضطرابًا.
ورغم أن ما شهدته الإسكندرية قد يبدو في ظاهره حدثًا محليًّا، فإن دلالاته تتجاوز حدود المدينة؛ إذ يسلّط الضوء على مدى هشاشة المدن الكبرى أمام اضطرابات مناخية غير معتادة؛ فحين تقع عاصفة بهذه الحدة في وقت غير متوقع، تُثار تساؤلات مشروعة بشأن مدى استعداد مدن أخرى -وفي مقدمتها القاهرة- للتعامل مع سيناريوهات مشابهة قد لا تستثني أحدًا، ولفهم طبيعة هذا الحدث واستشراف ما قد يتبعه، لا بد من العودة إلى خلفياته الجوية ومعرفة أسباب ما جرى.
أسباب أمطار الإسكندرية
تشير التقديرات الأولية إلى أن ما حدث في الإسكندرية يعود إلى تفاعل معقد بين منخفضين جويين، أحدهما عميق في الطبقات العليا من الغلاف الجوي، والآخر سطحي تمركز قرب سطح الأرض. هذا التفاعل العنيف أدى إلى تكوّن سحب رعدية كثيفة ورياح هابطة، كانت كفيلة بإحداث الفوضى التي شهدتها المدينة.
غير أن الخطر ليس في تفاصيل الظاهرة الجوية، وإنما في توقيتها ومكانها؛ إذ لم يكن معتادًا أن تشهد سواحل المتوسط مثل هذه العواصف في موسم يُفترض أنه صيفي مستقر. هذا الخلل في انتظام الفصول يعكس تغيرًا في النمط المناخي الإقليمي، ويشير إلى أن قواعد الطقس التي اعتدنا عليها بدأت تتغير أمام موجة جديدة من الاضطرابات المناخية التي يصعب التنبؤ بها أو احتواؤها.
وبقدر ما شكّلت الإسكندرية عنوانًا بارزًا لهذا التبدل المناخي، فإنها لم تكن إلا الواجهة الأولى لظاهرة آخذة في التوسع، تتجاوز السواحل لتطال مناطق داخلية ومدنًا أخرى تتفاوت في مستوى هشاشتها؛ فالعديد من المدن المصرية، الساحلية منها والداخلية، تعاني من ضعف البنية التحتية، وتزايد الضغط السكاني، وغياب أنظمة استجابة فعالة؛ مما يجعلها عُرضة لأزمات مناخية مفاجئة قد تكون أكثر شدة وتنوعًا من تلك التي شهدناها مؤخرًا.
هل القاهرة في مأمن؟
ومع تصاعد مشاهد الفوضى المناخية في الإسكندرية، انشغلت أذهان كثيرين بمصير العاصمة: هل ستكون القاهرة التالية؟ ورغم التصريحات التي استبعدت تكرار السيناريو ذاته في العاصمة، فإن مجمل المؤشرات المناخية تقول عكس ذلك؛ فدرجات الحرارة تواصل ارتفاعها بوتيرة متسارعة، وأنماط المطر أصبحت أقل انتظامًا وأكثر حدة، والعواصف المفاجئة باتت تظهر في أوقات غير متوقعة.
وما يزيد من تعقيد المشهد أن القاهرة -بطبيعتها العمرانية والاجتماعية- تعاني من اختلالات تجعلها أكثر عرضة للمخاطر البيئية؛ فهي وإن كانت لا تطل على البحر مثل الإسكندرية، ليست بمنأى عن هذا الخطر المتصاعد؛ إذ إن التغيرات المناخية لا تعترف بالتقسيمات الجغرافية، وإنما تمتد آثارها من الساحل إلى الداخل عبر سلسلة مترابطة من التفاعلات الجوية؛ فعاصفة تبدأ في عرض البحر قد تجد طريقها إلى عمق البلاد خلال ساعات، مسببة اضطرابات جوية في مدن مزدحمة.
وبالنظر إلى الواقع السكاني والعمراني للعاصمة، فإن أي اضطراب مناخي مفاجئ -ولو كان متوسط الشدة- قد يؤدي إلى شلل في مرافق النقل، وفوضى في الخدمات، وضغوط هائلة على البنية التحتية؛ مما يستدعي استباق هذه السيناريوهات بخطط طوارئ دقيقة ومنظومة إنذار مبكر فاعلة.
المدن الساحلية أشد عرضة للخطر
وإذا كانت الإسكندرية قد تصدرت العناوين، فإنها ليست وحدها في مهب الخطر؛ فالساحل الشمالي بأكمله يواجه واقعًا بيئيًّا حساسًا يتشكل بفعل تداخل عوامل طبيعية وبشرية معقدة؛ فتآكل الشواطئ يتسارع بفعل ارتفاع منسوب سطح البحر عامًا بعد عام، ويقابله هبوط تدريجي للأرض في مناطق الدلتا، مما يجعل بعض المناطق الساحلية أقرب للغمر مع كل عاصفة كبرى. هذه المعطيات مجتمعة تهدد ملايين السكان الذين يعيشون على امتداد الشريط الساحلي، وتعرّض مساحات زراعية حيوية ومنشآت صناعية واستراتيجية للخطر.
وإن مدنًا مثل كفر الشيخ ودمياط ومطروح ليست بمنأى عن هذه التهديدات، بل إنها ضمن أكثر المناطق تعرضًا لها، لا سيما في ظل تسارع وتيرة التغيرات المناخية، وتزايد عدد موجات الطقس العنيف من عواصف مطرية ورياح شديدة قد تفوق قدرة البنية التحتية المحلية على الاستيعاب.
بين اختبار الطبيعة وتحديات التنمية
وفي هذا السياق، يمكن أن يشكل هذا الحدث نقطة انطلاق لتحسين منظومات الاستجابة، وتحديث شبكات البنية التحتية، وتوسيع استخدام أدوات التنبؤ والإنذار المبكر، بما يحقق الهدف (13) من أهداف التنمية المستدامة المعني بالعمل المناخي. كما ينبغي إعطاء الأولوية في خطط التكيف المناخي للمدن الساحلية، ثم للمدن ذات الكثافة السكانية العالية وعلى رأسها العاصمة، نظرًا لما تمثله من ثقل اقتصادي وبشري، وبما يتوافق مع الهدف (11) من أهداف التنمية المستدامة المتعلق بجعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة وآمنة وقادرة على الصمود.
وتأتي هذه الخطوات في صلب ما تدعو إليه أجندة 2030، التي تربط بين العمل المناخي، وجودة البنية التحتية، وعدالة التوزيع الحضري؛ فدمج البُعد المناخي في السياسات العامة لا يعزز القدرة على التكيف فقط، وإنما يسهم أيضًا في تقليل الفجوة بين المناطق، ويدعم استقرار المجتمعات المحلية، ويقود نحو تنمية أكثر شمولًا واستدامة.
نحو يقظة مناخية شاملة
تبدو رسالة المناخ اليوم أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، وما من سبيل لتجاهل ما يحدث دون أن ندفع ثمنًا باهظًا في المستقبل القريب. لقد بات من الضروري أن تُبنى المدن المصرية على أسس جديدة من الصلابة والمرونة البيئية، تتجاوز منطق رد الفعل المؤقت إلى منطق الاستباق والتخطيط بعيد المدى.
وهذا يستدعي استثمارات استراتيجية في البنية التحتية الخضراء، وتطوير منظومات الرصد والإنذار، وتعزيز قدرات الإدارات المحلية على التنسيق والاستجابة، كما أن بناء وعي بيئي مجتمعي يمثل جزءًا أساسيًّا من هذا المسار؛ فالمجتمعات الواعية قادرة على المطالبة بحقوقها، وعلى التفاعل مع المبادرات المناخية، والمشاركة في صنع القرارات المتعلقة بالتنمية المستدامة.
وترى حماة الأرض أن التغيرات المناخية الأخيرة والمتسارعة في مصر، من زلازل وعواصف، وغيرها، تفتح نافذة مهمة للتأمل والمراجعة، وينبغي أن تُستثمر في وضع رؤية أشمل، تُعلي من شأن الوقاية، وتربط بين المناخ والتنمية باعتبارهما وجهين لأمن هذا الجيل والأجيال القادمة.