ظاهرة الغسل الأخضر بين الحقيقة والخداع
ظاهرة الغسل الأخضر بين الحقيقة والخداع
في ظل تصاعد التحديات البيئية، يتزايد تدهور الكوكب بفعل تغير المناخ والاستنزاف المتواصل للموارد الطبيعية، وهنا يبرز سؤال مصيري هو: كيف يمكننا الإسهام في إنقاذ الأرض وضمان مستقبل مستدام للأجيال القادمة؟
وفي الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات المطالبة بالتحرك الفوريّ، نجد في المقابل أنَّ هناك مَن يتلاعب بهذه الدعوات لتحقيق مكاسب تجارية دون تقديم التزامات حقيقية تجاه البيئة. ومِن هنا تأتي واحدة من أخطر الممارسات التي تشكل عائقًا أمام الجهود البيئية؛ هي ظاهرة الغسل الأخضر، وهي الظاهرة التي سوف تتناولها حماة الأرض في هذا المقال؛ لذا تابعوا القراءة.
تعريف ظاهرة الغسل الأخضر
ظاهرة الغسل الأخضر ليست وليدة اليوم، بل ظهرت بوادرها في سبعينيات القرن الماضي عندما بدأت الشركات بالاستجابة للضغوط الاجتماعية والسياسية المتزايدة لتقليل تأثيراتها البيئية، حينها نشأ مصطلح الغسل الأخضر. ويطلق عليه بالإنجليزية (Greenwashing)، وهو المصطلح الذي صاغه الناشط البيئي جاي ويسترفيلد عام 1986، عندما لاحظ حملات إعلانية مضللة تدعي فيها الشركات الالتزام بالاستدامة البيئية دون اتخاذ خطوات حقيقية لتحقيق ذلك.
في تلك الفترة بدأت الشركات الكبرى -مثل شركات النفط والفحم التي تعرضت لانتقادات بسبب انبعاثاتها الضارة- بترويج إعلانات تسلط الضوء على مبادرات صغيرة “خضراء”؛ لتحسين صورتها العامة. وقد تفاقمت الظاهرة مع بروز قضايا التغير المناخي والاحتباس الحراري، حيث باتت الشركات ترى في شعار “حماية البيئة” فرصةً تسويقيةً لجذب المستهلكين الواعين.
والغسل الأخضر هو مصطلح يشير إلى تلك الممارسات التسويقية المضللة، التي تهدف إلى إظهار الشركات أو منتجاتها على أنها صديقة للبيئة دون وجود التزامات حقيقية نحو تحقيق ذلك. وهذه الممارسات تعتمد على استخدام ادعاءات مبالغ فيها أو غير مدعومة بأدلة حقيقية؛ لتضليل المستهلكين واستغلال اهتمامهم بالقضايا البيئية.
ومما تجدر الإشارة إليه، هو أنَّ ظاهرة الغسل الأخضر لا تقتصر فقط على المنتجات، فهي تمتد إلى استراتيجيات الشركات وأهدافها المعلنة؛ مما يجعل من الصعب على المستهلك العادي التمييز بين الادعاءات الصادقة والمزيفة.
وعلى الرغم من أن الشركات حول العالم أصبحت تحت ضغط كبير لتحسين ممارساتها البيئية -مدفوعة بوعي عالمي متزايد بضرورة الحفاظ على الكوكب- فهناك شركات تلجأ إلى خداع المستهلكين -بدلًا من أنْ تلتزم التزامًا حقيقيًّا- من خلال تزييف الحقائق، وتجميل صورتها بما يتناسب مع الاتجاه البيئيّ العالميّ، وهذا تهديد كبير للمصداقية في الأسواق، وإهدار لجهود تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
كيف يخدع الغسل الأخضر المستهلكين؟
تقوم هذه الظاهرة -ظاهرة الغسل الأخضر- على استغلال التفاصيل الصغيرة لإعطاء انطباع خادع عن منتج ما؛ فتُستخدم -على سبيل المثال- عبارات غامضة كـ”طبيعي” و”قابل للتحلل” دون تقديم أدلة واضحة أو محددة تؤكد حقيقة هذه العبارات، كما تُصمم المنتجات بشكل يوحي بأنها صديقة للبيئة، في حين أنَّ عمليات إنتاجها تتسبب في أضرار بيئية جسيمة.
وأمَّا الأمر الأكثر خداعًا فهو استخدام شهادات وادعاء تصنيفات بيئية غير معترف بها؛ مما يعطي المستهلك انطباعًا خاطئًا بأنَّ المنتج قد خضع لتقييم علميّ صارم، وأنه متوافق مع معايير الحفاظ على البيئة وأهداف التنمية المستدامة.
أمثلة على الغسل الأخضر
من الأمثلة الشهيرة على ظاهرة الغسل الأخضر ما تقوم به بعض شركات السيارات التي تروج لطرازاتها الكهربائية باعتبارها حلًّا بيئيًّا كاملًا، وهي لا تزال تستثمر بكثافة في تصنيع السيارات التقليدية الملوثة. وهناك شركات النفط التي تسلط الضوء على استثماراتها في الطاقة المتجددة من خلال حملات دعائية واسعة، في الوقت الذي تواصل فيه تحقيق أرباحها الرئيسية من الوقود الأحفوري، الذي يُعدُّ العقبة العالمية الكبرى أمام التحول نحو الاستدامة الشاملة.
وعلى نحوٍ أكثر تحديدًا يمكننا أنْ نضرب مثالًا بما قامت به شركة فولكس فاجن في فضيحة الانبعاثات الشهيرة عام 2015، عندما تبين أنها زيفت نتائج اختبارات الانبعاثات لسياراتها؛ لجعلها تبدو أقل تأثيرًا في البيئة مما هي عليه في الواقع.
وفي السنوات الأخيرة وُجِّهت اتهامات إلى شركة بريتيش بتروليوم (بي بي) بممارسة “الغسل الأخضر”، من خلال ترويجها لالتزامات بيئية طموحة في الوقت الذي تواصل فيه استثماراتها في الوقود الأحفوري. وفي عام 2022 أعلنت الشركة عن هدف خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراريّ بنسبة 35 – 40% بحلول نهاية العقد، ثم تراجعت في فبراير 2023، وخفضت هذا الهدف إلى نسبة بين 20 – 30%.
وهذا التباين بين التصريحات الطموحة والواقع العمليّ داخل شركة بريتيش بتروليوم (بي بي) دفع منظمة السلام الأخضر إلى اتهامها بالغسل الأخضر، مشيرةً إلى أنَّ “بي بي” تروج لأهداف استدامة غامضة دون تقديم أرقام واضحة حول كمية الطاقة المتجددة المنتجة.
الآثار السلبية للغسل الأخضر
يؤدي الغسل الأخضر إلى فقدان الثقة بين الشركات والمستهلكين، ويضر بالجهود البيئية الحقيقية؛ فهو يؤدي إلى إبطاء التقدم نحو تحقيق الأهداف المناخية من خلال تشتيت الانتباه عن الحلول الفعالة، كما أنه يضعف الثقة العامة في المبادرات البيئية، حيث يصبح من الصعب التفريق بين الالتزام الحقيقي والدعاية المضللة. هذا بالإضافة إلى إهدار الموارد على حملات تسويقية عديمة الجدوى بدلًا من استثمارها في تحسين الأداء البيئي.
الجهود العالمية لمواجهة الغسل الأخضر
من أجل مكافحة ظاهرة الغسل الأخضر عملت الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى على تعزيز الشفافية، ووضع معايير دقيقة للإعلانات البيئية؛ فقد أنشأ الأمين العام للأمم المتحدة فريق خبراء رفيع المستوى مكلَّفًا بوضع معايير بشأن تعهدات الشركات والمؤسسات المالية والمدن والمناطق بتحقيق صافي انبعاثات صفريّ.
وللحكومات دور في هذا التصدي من خلال سن قوانين وطنية تسهم في الحد من ظاهرة الغسل الأخضر، وفرض عقوبات صارمة على الشركات المخالفة، كما أن منظمات المجتمع المدني أيضًا لها دور بارز في فضح هذه الممارسات من خلال التحقيقات الصحفية وحملات التوعية.
أما المستهلك فبسبب سعي هذه الشركات إلى خداعه عبْر هذه الممارسات فقد أصبح من الضروري تعزيز وعي المستهلك من خلال ما يلي:
- المعرفة بأساليب الغسل الأخضر الشائعة، وفهم ما يمكن أنْ يشكِّل الممارسات والمنتجات المستدامة.
- الإنفاق بحكمة حين يكون ذلك ممكنًا؛ لأنه لا ينبغي لنا أنْ نتعجَّل في اختيار المنتجات من الشركات التي تستخدم الموارد بشكل مستدام، ويجب أنْ نحرص على التحقق مما إذا كانت الشركة تابعة لأي من مبادرات الأمم المتحدة المتعلقة بالمناخ والاستدامة، مثل مبادرة “السباق نحو الصفر” التابعة لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ، أو ميثاق صناعة الأزياء من أجل العمل المناخي، أو غيرهما.
- التركيز على دورة حياة المنتج، فعند اختيار أي منتج يجب أن تفكر في رحلته الكاملة من البداية إلى النهاية، ابتداءً من المواد المستخدمة في تصنيعه وحتى التخلص منه، مع الأخذ في الاعتبار أيضًا العواقب البيئية المرتبطة بمواده وتغليفه.
ختامًا، فإنَّ لحماة الأرض دورًا توعويًّا بالغ الأهمية في ظل هذه التحديات البيئية المتزايدة؛ لأنها تؤمن بأنَّ حماية الأرض مسئولية مشتركة، وهو ما يحتاج إلى أصوات صادقة وجهود حقيقية، مع الوضع في الاعتبار أنَّ التحول الأخضر الحقيقيّ لن يكون بين يوم وليلة؛ ولهذا تظل حماة الأرض تدعو إلى انتهاج الأمانة والشفافية في ما يتم إنجازه من الخطط والأهداف المرجوَّة؛ كي ننقذ الأرض من مستقبل غير مستدام.