علوم مستدامة

قصة صعود المياه نحو الهيمنة والنزاع

قصة صعود المياه نحو الهيمنة والنزاع

إنَّ المياه العذبة نبض الحياة الخفي الذي يسري في شرايين الحضارة، حيث تصوغ توازناتِ الجغرافيا ومتغيراتِ السياسة والتاريخ، ومع ذلك صارت أزمة حقيقية تهدد حياة الناس في كثير من دول العالم من خلال التسبب في اختلال الأمن الغذائي، وغياب العدالة في توزيع الموارد؛ وهو الأمر الذي يدعو إلى القلق.

ولذلك تغوص حماة الأرض بهذا المقال في أعماق أزمة ندرة المياه المُركبة، مستكشِفةً تداعياتها المحتملة على الأمن والاستقرار العالميين، وتأثيرها في معدلات نقص الغذاء، وكذلك تأثيرها في أهداف التنمية المستدامة بصورة عامة، مع طرح نماذج دولية تحولت فيها المياه إلى عامل توتر بالغ الخطورة.

ما المقصود بندرة المياه العذبة؟

ندرة المياه العذبة هي الفجوة بين الطلب المتزايد على المياه ومصادرها الطبيعية، وعلى الرغم من أنَّ هذه المياه العذبة تشكِّل حوالي 2.5% من إجمالي المياه الموجودة فوق سطح الأرض فإنَّ حوالي 70% من هذه النسبة الكلية للمياه العذبة محتجزٌ -وفقًا لوكالة المسح الجيولوجي الأمريكي (USGS)- في الأنهار الجليدية والقمم الثلجية، وكذلك الغلاف الجوي حيث الأمطار، في حين أنَّ الـ30% المتبقية تكون موجودةً في المياه الجوفية، التي ليست سهلةَ الاستخراج أو متاحةً للاستعمال المباشر في كثير من المناطق.

وعلى ذلك نجد أنفسنا أمام ما يُسمَّى بالندرة المائية، وهذا بسبب نقص الموارد المائية المتاحة كما هو الحال في المناطق الجافة وشبه الجافة، لكنَّ ندرة المياه لا تعود إلى عوامل طبيعية فقط، بل تتفاقم بفعل سوء الإدارة، والاستغلال المفرط، والاستخدام غير المستدام، خاصةً في القطاعات الزراعية والصناعية. وعلى ذلك تتنوع ندرة المياه إلى ثلاثة أنواع؛ هي:

  • الندرة المادية: وهي نقص فعلي في الموارد المائية نتيجة عوامل طبيعية كالجفاف.
  • الندرة الاقتصادية: ناجمة عن ضعف البنية التحتية، أو سوء التوزيع وعدم قدرة الدولة على توفير المياه للمواطنين.
  • الندرة المؤسسية: تتعلق بغياب الحوكمة الرشيدة أو الأطر التشريعية الفعالة لإدارة الموارد المائية.

ندرة المياه

أزمة متفاقمة بتأثيرات متداخلة

مع ازدياد النمو السكاني، وارتفاع درجات الحرارة، وتدهور مصادر المياه الطبيعية، تجد كثير من الدول نفسها داخل هذا الوضع المتشابك، وفي سباق مع الزمن لإيجاد حلول بديلة. وهذا الوضع لا يؤثر في الحياة البشرية فحسبُ، وإنما هو وضع شديد الخطورة أيضًا بالنسبة إلى النظم البيئية والكائنات المختلفة؛ إذْ تتراجع جودة المياه وكمياتها في مناطق كثيرة من العالم، متسببةً في تآكل الأراضي الزراعية واندثار مجتمعات زراعية كاملة، مثلما حدث في ولاية ماهاراشترا الهندية، حيث تفاقمت أزمة المياه مع تراجع منسوب نهر جودافاري (نهر يمتد من غرب الهند إلى جنوبها بطول يبلغ 1465 كم) وتلوث مصادر الري؛ مما أدى إلى تصحر الأراضي المحيطة بهذا النهر؛ وبالتالي تقلصت أعداد المزارعين في هذه المنطقة، لا سيما بعد أنْ عجزوا عن الوفاء بالاحتياجات الزراعية الأساسية.

وفي الجهة الأخرى نجد منطقة غرب آسيا -في القلب منها كثيرٌ من الدول العربية- نموذجًا حيًّا على خطورة أزمة ندرة المياه العذبة وتداعياتها المُركبة؛ فبالرغم من أنها موطن لنحو 5.9٪ من سكان العالم -وفق البيانات الصادرة عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)- فإنها لا تملك سوى نسبة قليلة من المياه العذبة عالميًّا؛ مما جعلها من أكثر المناطق معاناة من أزمة ندرة المِياه.

تأثيرات ندرة المياه في السكان

وهذا العجز المزمن في توفير المِياه العذبة يتفاقم بفعل النمو السكاني -المشكلة الكبرى في أزمة ندرة المِياه- وسوء إدارة الموارد، والاعتماد المفرط على الزراعة التقليدية التي تستهلك -وفق تقرير منظمة الأغذية والزراعة– نحو 80٪ من المِياه في قارة آسيا ومعها إفريقيا، إلى جانب استنزاف خطير للمياه الجوفية؛ مما تسبب في انخفاض نصيب الفرد من المِياه في بعض الدول العربية، حيث وصل إلى ما دون 200 متر مكعب سنويًّا. وبسبب هذا التدهور المائي أصبحت هناك توترات حادة ونزاعات مائية بين الدول، كما في نزاع نهرَي دجلة والفرات بين تركيا وسوريا والعراق، أو النزاع حول نهر الأردن بين إسرائيل والدول المجاورة.

كيف تؤثر ندرة المياه في التنمية؟

في ما سبق ذكرنا عددًا من أسباب ندرة المِياه العذبة، غير أنَّ هناك سببًا آخر أشدَّ ارتباطًا بهذه الأزمة العالمية، ألَا وهو تغير المناخ؛ فها هو العالم يشهد في الأعوام الأخيرة احترارًا غير مسبوق، وارتفاعًا قياسيًّا في درجات الحرارة، مع ما نواجهه من انخفاض معدل هطول الأمطار، فضلًا عن تفاقم ظاهرة الجفاف.

وبالرغم من جميع هذه التحديات فإنَّ أمام العالم وشعوبه فرصة لا بأس بها إذا ما اتحدت الجهود، من خلال اعتماد تقنيات تحلية مياه البحر -على سبيل المثال- وتحديث نظم الري للتحول بها نحو الاستدامة، مع النظر بعين الاعتبار إلى ضرورة تبنّي سياسات رشيدة تعتمد على الإدارة المتكاملة للموارد المائية، وترشيد الاستهلاك، وكذلك إدخال بُعد المِياه في جميع السياسات التنموية مِن التعليم إلى الاقتصاد.

كيف تؤثر ندرة المياه في التنمية؟

وذلك يحقق بلا شك عددًا من أهداف التنمية المستدامة، بدءًا من الهدف رقم (2) المتعلق بالقضاء على الجوع، والهدف رقم (3) المرتبط بالصحة الجيدة والرفاه، وكذلك الهدف رقم (6) المعنيّ بالمِياه النظيفة والنظافة الصحية؛ لأنَّ التلوثَ ونقصَ المِياه يهددانِ الأمن الغذائي، كما يؤديان إلى انتشار الأمراض المنقولة عبر المِياه، ويُفاقمان من الهشاشة الصحية، خاصةً في الدول النامية.

ختامًا، فإنَّ قضية ندرة الِمياه العذبة -مثلما ترى حماة الأرض– قضية مصيرية، وفيها تتجلى من قريب أو من بعيد أبعاد التنمية المستدامة وأهدافها، تلك الأهداف السبعة عشر التي تركز جهودها على دعم الإنسان وحياته وحياة جميع الكائنات من خلال توفير المِياه والموارد كلها؛ تعميرًا للأرض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى