كرة القدم ترفع الراية الخضراء
كرة القدم ترفع الراية الخضراء
هل يمكن للعبة كرة القدم أن تُحرز أهدافًا خارج حدود الملاعب؟ وهل يمكن لنجم مثل “كريستيانو رونالدو” أو محمد صلاح أن يُلهِم الملايين بمهاراته ورسائله البيئية وسلوكياته المستدامة؟ ذلك لأننا نعيش في وقت أصبح التغير المناخي فيه واقعًا لا يمكن تجاهله؛ لذا لم تعد الرياضة تسلية فقط، وإنما أداة شديدة التأثير وقادرة على تشكيل وعي الجماهير حول قضايا البيئة والاستدامة.
فمِن تغيُّر المناخ إلى فقدان التنوع البيولوجي وتلوث الهواء والمياه واستهلاك موارد الطبيعة، لم تعد الاستدامة شعارًا نرفعه، وإنما أصبحت ضرورة وجودية. ومع هذا التحول العالمي برزت الرياضة باعتبارها أداة غير تقليدية وفعَّالة لنشر ثقافة الاستدامة؛ لأنها تُمارَس في الهواء الطَّلْقِ، وتُشاهَد من قِبل الملايين، فضلًا عن كونها نموذجًا إنسانيًّا غنيًّا بقيم التعاون والاحترام والانتماء والعدالة.
فها هو “كريستيانو رونالدو” الذي يتحدث باستمرار عن أهمية الحفاظ على اللياقة البدنية والعيش بأسلوب صحي، ومحمد صلاح المعروف بمشاركته في حملات توعية اجتماعية وبيئية – أصبحَا رياضيينِ يستخدمانِ شهرتهما لنشر قيم إيجابية. وهذا التأثير يتجاوز حدود الجماهير إلى السياسات التي تتبناها الأندية، والبنية التحتية للملاعب، والمبادرات التي تدعو إلى الحد من الانبعاثات وتوفير الطاقة.
ذلك لأنَّ الرياضة تملك القدرة على تحفيز المجتمعات نحو تبنّي سلوكيات مسئولة بيئيًّا، بما يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، سواء باعتماد النقل المستدام في تنقلات الفِرق والمشجعين، أم بتنفيذ حملات توعوية ضمن أحداث البطولات الكبرى؛ ومِن ثَمَّ فإنَّ الرياضة تسهم في بناء مستقبل أكثر توازنًا بين الإنسان والطبيعة.
والسؤال هنا: كيف يمكن للرياضة -رياضة كرة القدم تحديدًا- أنْ تدافع عن الكوكب؟ وما الذي يجعل من الملاعب ساحة انتصار لمعركة الاستدامة؟ لذا سوف تتناول حماة الأرض في هذا المقال أوجه العلاقة بين رياضة كرة القدم وأهداف التنمية المستدامة، من خلال قصص ملهمة، وتجارب حقيقية تُظهر كيف تتحول اللعبة إلى قوة خضراء.. فتابعوا قراءة المقال.
النادي الأخضر
في ريف إنجلترا -في مقاطعة جلوسترشير- نشأت واحدة من أكثر القصص إلهامًا بين رياضة كرة القدم والبيئة، حيث نادي “فورست جرين روفرز” الذي اعتبرته الفيفا “أكثر أندية العالم اخضرارًا”؛ ففي عام 2010 لم يكن هذا النادي سوى فريق إنجليزي صغير يكافح في دوري الدرجة الثانية، ثم تحوَّل إلى نادٍ محايد كربونيًّا، ليكون بذلك في صدارة الإعلام البيئي والرياضي.
ولم تبدأ قصة النادي بقرار فجائي، وإنما كانت رحلة طويلة من القرارات المستنيرة؛ فقد تحوَّل ملعبه إلى مساحة تعتمد على الطاقة الشمسية، وأصبح العشب عضويًّا دون استخدام أي مواد كيميائية، حتى آلة جز العشب أصبحت روبوتًا يعمل بالطاقة الشمسية، وكذلك استُبدلت قائمة إطعام اللاعبين التقليدية بأخرى نباتية، ليس لتقليل الانبعاثات فقط، وإنما أيضًا من أجل توفير بيئة رياضية تجسِّد فكرة الاستدامة بكل معانيها.
وكانت النتائج مذهلة؛ فقد انخفضت البصمة الكربونية للنادي، وارتفعت أعداد الحضور الجماهيري بنسبة 400% منذ عام 2010، وتحوّلت المقاطعة الصغيرة -مقاطعة جلوسترشير- إلى مزار لعشاق البيئة والرياضة معًا، ولم يتوقف تأثير النادي عند حدود المجال الرياضي؛ إذْ امتد إلى المدارس والمجتمعات المحلية عبر برامج تعليمية، مثل سفراء النادي البيئيين الذين ينشرون الرسالة الخضراء بين طلاب المدارس، وجميع فئات المجتمع المحلي.
كريستيانو رونالدو والاستدامة
قد لا يكون اسم كريستيانو رونالدو أولَ ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الاستدامة، سوى أنَّ هذا النجم الرياضي العالمي قدَّم لجميع الشعوب نموذجًا رائدًا بتأثيره في ثقافة جماهير كرة القدم؛ ففي أثناء بطولة أمم أوروبا 2020 (يورو2020)، عندما أبعد رونالدو زجاجة مياه غازية من أمامه في أحد المؤتمرات الصحفية، ولم يُعلق على هذا بتعليق سياسي أو بيئي، وإنما قال ببساطة: «اشربوا الماء». وحينها خسرت شركة المياه الغازية أكثر من 4 مليارات دولار من قيمتها السوقية في ساعات قليلة؛ لتُظهر هذه الواقعة أنَّ النية الفردية قد تفوق في تأثيرها مؤسسات بأكملها.
هذا النموذج الرياضي العالمي يفتح بابًا واسعًا أمام سؤال جوهري؛ هو: هل يمكن للأفراد المؤثرين أنْ يكونوا أدوات فاعلة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة؟ الجواب نعم؛ فإنَّ التأثير الفردي -في زمن الإعلام الجديد وتأثير الشبكات الاجتماعية- قد يتجاوز تأثيرَ كل المنظومات التقليدية في السياسة والاقتصاد؛ وعليه فإنَّ التعاون مع رموز عالمية مثل رونالدو يمكن أنْ يشكِّل منصة قوية لنشر مفاهيم العدالة المناخية، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول 2030.
الدوري الإنجليزي الممتاز
بعيدًا عن الأضواء والأهداف المثيرة يعمل الدوري الإنجليزي الممتاز بهدوء على تنفيذ واحدة من كبرى استراتيجيات الاستدامة في تاريخ الرياضة؛ ففي عام 2024 أطلق خطة شاملة تستهدف الوصول إلى صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2040، مستندًا إلى رؤية عملية حول جميع جوانب لعبة كرة القدم؛ من تشغيل الملاعب إلى تنقُّل الفِرق والجماهير.
وقد اهتمت الخطة اهتمامًا خاصًّا بالتعليم والتثقيف البيئي، ودمج مفاهيم الاستدامة في البرامج التعليمية للاعبين الشباب في الأكاديميات، ووزعت مبادرة “Protect the Planet” (بالعربية: حافظوا على الكوكب) موارد تعليمية على عشرات الآلاف من المدارس.
ثم كان الإنجاز الأهم هو توحيد المعايير البيئية داخل الأندية، عبر تعيين مسئولين بيئيين في كل نادٍ -لتنسيق السياسات الخضراء، ومراقبة الأداء البيئي، وتوفير الدعم للمبادرات المستدامة على مستوى البنية التحتية والجماهير- وتطوير سياسات واضحة لخفض الانبعاثات، وتوفير التمويل للمشروعات الخضراء في ملاعب الدرجة الأولى.
وبفضل هذه الخطوات لم يعد الدوري الإنجليزي تنافسًا رياضيًّا فحسب، وإنما صار منصة ثقافية تقود التغير المناخي، وتُثبت أنَّ كرة القدم –بما تمتلكه من نفوذ وجاذبية– يمكن أنْ تكون قوة دافعة نحو مستقبل أخضر، حيث أصبحت لعبة كرة القدم “لعبة خضراء”.
محمد صلاح: كرة القدم في خدمة الكوكب
لا تقتصر إسهامات اللاعب الدولي المصري محمد صلاح -ذلك النموذج الرياضي الذي وصفته مجلة تايم الأمريكية (Time) بأنه أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في العالم- على تسجيل الأهداف، وإبهار الجماهير في الملاعب الأوروبية؛ إذْ إنه يساعد على تعزيز مجالات إنسانية وبيئية تجعل منه رمزًا عالميًّا للالتزام المجتمعي؛ فالنجم المصري يسخِّر شهرته في إحداث التغيير الإيجابي المطلوب، من أجل صنع مستقبل مستدام.
وفي عام 2021 اُختير صلاح ليكون أحد مقدمِي “Earthshot Prize – جائزة إرث شوت”؛ وهي الجائزة التي غطت حماة الأرض فعالياتها أكثر من مرَّة، بعدما أطلقها الأمير ويليام لدعم الحلول البيئية الرائدة في مجالات حماية الطبيعة، وتنقية الهواء، وإحياء المحيطات، وإعادة تدوير النفايات، ومكافحة تغيّر المناخ. وقد كان ظهور محمد صلاح في هذا الحدث البيئي العالمي رسالة قوية بأنَّ كرة القدم قادرة على تجاوز حدود اللعبة، وتستطيع أنْ تكون منصة للتأثير البيئي الإيجابي.
وتجلَّت أيضًا روح المسئولية الاجتماعية في خطوات اللاعب المصري العالمي محمد صلاح في مبادرات محلية، مثل مشاركته التطوعية في حملة “أنت أقوى من المخدرات“، التي سلطت الضوء على خطورة الإدمان، وشجعت الشباب على اتخاذ خيارات صحية لحياتهم ومستقبلهم؛ فلم تكن حملة توعوية جوفاء أو حملة كلمات رنانة، وإنما كانت خطابًا إنسانيًّا وجَّهه صلاح مباشرةً إلى قلوب ملايين المصريين، مستخدمًا مكانته في نفوس الشباب؛ من أجل كسر دوائر الصمت والخوف.
أمَّا على مستوى التعليم فقد خَطَا محمد صلاح خطوة واسعة حين أصبح أول سفير لمبادرة “Instant Network Schools – مدارس الشبكة الفورية”، التي تديرها شركة اتصالات إنجليزية بالتعاون مع المفوضية السامية لشئون اللاجئين. وهي مبادرة تهدف إلى ربط الطلاب اللاجئين والمجتمعات المستضيفة بالتعليم الرقمي، وتوسيع آفاقهم من خلال التكنولوجيا والاتصال بالعالم الخارجي. ومن المخطط له أنْ تدخل هذه المدارس الرقمية مصرَ لأول مرَّة، بدعم من صلاح، لتتيح الفرصة لأجيال جديدة من الشباب لرسم مستقبلهم بأدوات العصر.
“درع حماة الأرض” لاستدامة الأندية الرياضية
كل ما مضى من توجهات وخطوات مستدامة تنظر إليه مؤسسة حماة الأرض بعين الاعتبار، وتسعى إلى تحقيقه في أرض الواقع -أرض مصر الطيبة- انطلاقًا من سياساتها التي تحاول بها تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ونشر الوعي بقضاياها.
ولذلك رأت المؤسسة ما في المشهد الرياضي من فرصة واعدة لتعزيز العمل التنموي، حيث تعمل هذه الأيام على إطلاق جائزة طموحة تحت عنوان “درع حماة الأرض“، وهذا بالتعاون بينها وبين وزارة الشباب والرياضة؛ من أجل تحفيز الأندية المصرية على تبني مفاهيم التنمية المستدامة وأهدافها، استنادًا إلى رؤية ثلاثية الأبعاد، تجمع بين تعزيز المسئولية المجتمعية، وتحقيق الكفاءة الاقتصادية، وتشجيع الممارسات البيئية داخل الأندية، مثل إعادة التدوير، وترشيد الطاقة، والحفاظ على الموارد المائية.
ومن خلال هذه الجائزة تسعى حماة الأرض أيضًا إلى بناء شراكة حقيقية بين القطاع الرياضي –الحكومي- والمجتمع المدني، وهي الشراكة التي لاقت استحسان وسائل الإعلام المختلفة، باعتبارها خطوة نوعية لإعادة تعريف دور الأندية الرياضية. ويُجرى حاليًّا الإعداد لمجموعة من البرامج المصاحبة، مثل تدريب كوادر شبابية في مجال التنمية المستدامة، وتنظيم لقاءات بين الشباب وصنّاع القرار، إلى جانب أنشطة تعليمية داخل مراكز الشباب الرياضية.
وفي الختام، ستظل مؤسسة حماة الأرض ساعيةً -كما عادتها- نحو تنفيذ شراكات فعَّالة مع مختلف الجهات الرسمية في مصر وخارجها؛ كي تجعل التنمية المستدامة وأهدافها همَّا مشتركًا، وصورةً من صور بناء مجتمعات صحية ومستدامة في حاضرها ومستقبلها.