علوم مستدامة

التسرب الإشعاعي إرث الحروب النووية

الاشعاعي

التسرب الإشعاعي إرث الحروب النووية

منذ أن بدأت البشرية استخدام الطاقة النووية، ظهر وجه آخر لهذا الإنجاز العلمي، وجه قاتم يحمل معه مخاطر كبيرة تتعلق بالتسرب الإشعاعي، وهو من أكبر التحديات البيئية والصحية التي يواجهها العالم في العصر الحديث. ولا يقتصر خطره على الحوادث النووية الكبرى فقط، وإنما يشمل أيضًا الاستخدامات العسكرية للطاقة الذرية، بدءًا من قنبلة هيروشيما ووصولًا إلى تجارب الأسلحة النووية وحوادث التسرب من المنشآت المدنية.

وفي هذا المقال، سوف تسلط حماة الأرض الضوء على الترابط بين التسرب الإشعاعي ومبادئ الاستدامة، من خلال استعراض أسبابه وآثاره، والتحديات التي يطرحها على صعيد أهداف التنمية المستدامة، مع التوقف عند نماذج تاريخية لا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم، مثل الكارثة النووية في هيروشيما؛ فتابعوا القراءة.

ما التسرب الإشعاعي؟

يحدث التسرب الإشعاعي عندما تفلت المواد المشعة من أماكن احتوائها، سواء في محطات الطاقة النووية أو في المختبرات أو خلال عمليات التصنيع أو النقل، ورغم أن هذه المواد تُخزّن عادة في بيئات محكمة الإغلاق، فإن أي خلل تقني أو بشري قد يؤدي إلى تسربها إلى الهواء أو الماء أو التربة؛ مما يؤدي إلى تلوث إشعاعي خطير يصعب احتواؤه.

ما يجعل التلوث الإشعاعي أشد خطورة هو طبيعته غير المرئية؛ إذ لا يمكن رؤيته أو شمه أو لمسه، مما يُصعّب اكتشافه دون أجهزة قياس متخصصة، وهو ما يُبرز أهمية الدور الرقابي الذي تلعبه جهات دولية مثل منظمة الصحة العالمية (WHO) والوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)  في تتبع آثاره في مختلف أنحاء العالم.

وتزداد الخطورة مع بعض العناصر المشعة مثل السيزيوم-137 والبلوتونيوم، التي تحتفظ بنشاطها الإشعاعي لآلاف السنين، وتواصل بث إشعاعاتها لفترات طويلة، مسببة أمراضًا مزمنة مثل السرطان والتشوهات الوراثية والأضرار العصبية، ليس فقط للكائنات الحية، وإنما وللأنظمة البيئية بأكملها.

هيروشيما قنبلة تاريخية

في السادس من أغسطس عام 1945، أُلقيت أول قنبلة نووية في التاريخ على مدينة هيروشيما اليابانية، ولم تكن الضربة مجرد انفجار، وإنما كانت بداية لعصر جديد من الدمار غير المسبوق؛ فقد أسفرت القنبلة عن مقتل ما يزيد عن 140 ألف شخص في الأسابيع الأولى فقط، في حين استمرت الآثار الإشعاعية لعقود، مسببة أمراض السرطان والتشوهات الخلقية لدى الناجين وأبنائهم.

وفقًا لبيانات منظمة السلام الدولية ومتحف هيروشيما للسلام، فإن المواد المشعة مثل اليورانيوم-235 التي استخدمت في القنبلة لا تزال تؤثر في البيئة حتى اليوم، رغم مرور أكثر من 75 عامًا على الحادثة. ولم يكن ذلك الحدث مجرد خطوة عسكرية حاسمة أنهت الحرب العالمية الثانية، وإنما شكّل لحظة مفصلية كشفت عن الجانب المظلم للتقدم العلمي عندما يُوجَّه نحو الدمار بدلًا من البناء.

هيروشيما

والأخطر أنَّ هيروشيما لم تكن نهاية القصة، وإنما بدايتها؛ فقد فتحت تلك الضربة الباب أمام سلسلة طويلة من التجارب النووية التي أجرتها القوى الكبرى في أعماق المحيطات وقلب الصحاري، دون أدنى اعتبار للنظم البيئية أو حياة الكائنات التي تقطنها. ومن هنا برزت العلاقة بين الحرب والتلوث الإشعاعي باعتبارها واحدة من أكثر القضايا تهديدًا للاستقرار العالمي، حيث تقوّض أسس السلام والتنمية المستدامة.

بين التكنولوجيا والخطر المستمر

ليست القنابل النووية وحدها من تسبب التلوث الإشعاعي، فحتى الاستخدام المدني للطاقة النووية يحمل معه مخاطر كبيرة، خاصة في حال حدوث تسربات غير متوقعة. ومن أشهر الحوادث التي سلطت الضوء على ذلك، كارثة “تشيرنوبل” في أوكرانيا عام 1986، وحادثة فوكوشيما في اليابان عام 2011.

حادثة فوكوشيما

وفقًا لتقرير نشرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) ، فإن كارثة “تشيرنوبل” أدت إلى إطلاق كميات هائلة من الإشعاع، تجاوزت 400 ضعف كمية الإشعاع المنبعثة من قنبلة هيروشيما، وأثرت على أكثر من 8.4 مليون شخص في أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا، أما فوكوشيما، فقد تسببت بتسرب مواد مشعة إلى المحيط الهادئ، وهو ما زاد من المخاوف بشأن السلامة البحرية والغذائية في المنطقة.

تشيرنوبل

وتُعيد هذه الحوادث الكبرى طرح تساؤلات حادة حول جدوى الاعتماد على الطاقة النووية، خاصة في ظل ما تحمله من مخاطر بيئية وصحية طويلة الأمد؛ فرغم الجهود المبذولة لتعزيز معايير السلامة، يبقى احتمال التسرب قائمًا. وفي هذا السياق، يتصاعد النقاش عالميًّا بشأن مستقبل الطاقة النظيفة، حيث يدعو كثيرون إلى توجيه الاستثمارات نحو مصادر أكثر أمانًا واستدامة، مثل الطاقة الشمسية والرياح، لتجنّب تكرار مآسي قد لا تحتملها الأرض ولا الأجيال القادمة.

توترات عالمية

وعلى الصعيد العالمي الحالي فقد تجددت في الأيام الأخيرة المخاوف النووية مجددًا، وتكمن خطورة هذه المخاوف في محاولة استخدام الأسلحة النووية أو استهداف المنشآت النووية العسكرية والمدنية، وهي محاولات تحمل في طياتها تهديدًا كارثيًّا يتجاوز حدود الدولة المستهدفة ليطال أقاليم بأسرها، وربما العالم كله؛ بسبب طبيعة الإشعاع النووي وقدرته على الانتشار السريع الذي لا يعترف بالحدود الجغرافية؛ فالتهديد النووي لا يقتصر على الانفجار الأولي، وإنما يمتد ليشمل آثارًا بيئية وصحية واقتصادية قد تستمر عقودًا من الزمان.

ومع تصاعد التوترات في مناطق مثل الشرق الأوسط وشرق أوروبا، تتزايد المخاوف من لجوء بعض الأطراف إلى استخدام الأسلحة النووية وسيلةً لردع الآخرين أو تهديدهم، أو حتى استخدامها خيارًا عسكريًّا في لحظة اندفاع. وهذه السيناريوهات وإن كانت تبدو مستبعدة في مناطق الحرب التقليدية، إلا أنها ليست مستحيلة، خصوصًا في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، واتساع الفجوة الدبلوماسية بين القوى النووية؛ مما يزيد من احتمالية اتخاذ قرارات غير محسوبة في أوقات حرجة.

إنَّ الهجوم على محطة طاقة نووية أو منشأة لتخصيب اليورانيوم قد يؤدي إلى تسرب إشعاعي يتسبب في كارثة بيئية لا تختلف كثيرًا عن تشيرنوبيل أو فوكوشيما. ومثال ذلك ما تم تداوله في السنوات الأخيرة حول تهديدات متبادلة باستهداف منشآت نووية في مناطق النزاع، التي اعتبرتها الأمم المتحدة خطوطًا حمراءَ قد تُدخل العالمَ في “مجهول نووي”.

وكذلك فإنَّ ربط التهديدات النووية بالأمن الإقليمي والعالمي يضع العالم أمام معادلة بالغة الخطورة؛ لأنَّ كل تصعيد جديد في منطقة تحتوي على قدرات أو منشآت نووية، يعني احتمال انزلاق سريع نحو أزمة لا يمكن احتواؤها بسهولة. وهذا ما يجعل من قضايا الأمن النووي، ونزع السلاح، والمراقبة الدولية على المنشآت، أولوية قصوى لتحقيق هدف التنمية المستدامة رقم (16) المتعلق بالسلام والعدل والمؤسسات القوية، والذي لا يمكن أنْ يتحقق في عالم مهدد بالإشعاع والانفجارات النووية.

التلوث الإشعاعي يهدد التنمية المستدامة

من جهة أخرى لا يمكن النظر إلى التلوث الإشعاعي بوصفه مجرد أثر جانبي لتقنية أو حادث عرضي، وإنما باعتباره خطرًا مركبًا يمتد أثره إلى صميم التنمية المستدامة؛ حيث يُقوّض العديد من أهداف التنمية المستدامة (SDGs) التي تُعد إطارًا دوليًا لبناء مستقبل أكثر عدلًا واستدامة.

فعلى سبيل المثال، يتعارض هذا النوع من التلوث بشكل مباشر مع الهدف (3) المتعلق بالصحة الجيدة والرفاه، نظرًا لما يسببه من أمراض مزمنة وآثار وراثية تطال الأجيال القادمة، كما يتنافى مع الهدف (6) المعني بالمياه النظيفة والنظافة الصحية؛ إذ تؤدي التسربات الإشعاعية إلى تلويث المياه الجوفية والسطحية، مما يهدد سلامة الموارد المائية.

ولا يقلّ الخطر في النظم البيئية البحرية، حيث يتضرر الهدف (14) المتعلق بالحياة تحت الماء، خاصة عندما تصل المواد المشعة إلى المحيطات كما حدث في كارثة فوكوشيما؛ مما يؤدي إلى اختلالات واسعة في السلسلة الغذائية البحرية. أما الهدف (15) المرتبط بالحياة على البر فهو يتعرض أيضًا للتهديد نتيجة تلوث التربة والغابات، الأمر الذي يهدد التنوع البيولوجي ويقوّض استقرار النظم البيئية.

وعلى نحو أشد عمقًا، تتأثر العدالة البيئية، بوصفها مبدأً جوهريًّا في تحقيق التنمية المستدامة، فعندما يُوجَّه التلوث الإشعاعي عمدًا نحو مناطق دون غيرها -سواء عبر الحروب أو دفن النفايات في بيئات هشة- تحدث فجوات بيئية وصحية غير عادلة بين الدول والمجتمعات، ويكشف عن أوجه تمييز غير مرئية تزداد تفاقمًا بمرور الوقت.

نحو مستقبل آمن ومستدام

من أجل معالجة هذا الخطر، ينبغي أولًا الاعتراف بأن التلوث الإشعاعي ليس مجرد قضية طارئة، وإنما هو تهديد مزمن، وعلى الدول والمجتمع الدولي أن تتبنى سياسات صارمة في مجال الرقابة على المواد المشعة، وتحديث بروتوكولات السلامة في المحطات النووية، وضمان الشفافية في الإبلاغ عن أي تسربات أو حوادث.

كما يجب الاستثمار في البحث العلمي من أجل تطوير طرق أكثر كفاءة في التخلص من النفايات النووية، وتشجيع التحول نحو الطاقة المتجددة بوصفها حلًّا مستدامًا وأقل خطرًا، ومن الأهمية بمكان دعم برامج التوعية العامة حول أخطار الإشعاع، وتمكين المجتمعات من حماية أنفسها والاستجابة بفعالية لأي طارئ.

فالاستدامة لا تعني مجرد الحفاظ على الموارد، وإنما تعني قبل كل شيء صون الحياة، وإنَّ كل أشكال التلوث الإشعاعي تمثل عائقًا خطيرًا أمام هذا الهدف النبيل؛ ومن هذا المنطلق تؤمن حماة الأرض بأنَّ بناء مستقبل أكثر أمانًا لا يتحقق إلا بالاعتراف بالأخطاء البيئية التي ارتُكبت، والعمل على تجاوزها من خلال سياسات عادلة ومستدامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى