التقاط ثاني أكسيد الكربون وتخزينه في الخرسانة
التقاط ثاني أكسيد الكربون وتخزينه في الخرسانة
يُعدُّ قطاع البناء مصدرَ انبعاثات كربونية متزايدة، ومع التحول العالمي نحو تخضير هذا القطاع -وغيره من القطاعات- أصبحنا في حاجَةٍ ماسَّة إلى حلول مبتكرة؛ من أجل تقليل هذه الانبعاثات، ومكافحة التغيرات المناخية، التي يتسبب فيها ثاني أكسيد الكربون بنسبة كبيرة.
من أبرز هذه الحلول تحويل الخرسانة -المادة الأساسية في قطاع البناء- إلى خزان عملاق لثاني أكسيد الكربون؛ ولذلك سوف تتناول حماة الأرض في هذا المقال هذه الفكرة الواعدة بشكل تفصيليّ.. فتابعوا القراءة.
من خرسانة إلى خزان للكربون
الخرسانة -التي تُعد من أكثر المواد استخدامًا في العالم بعد الماء- هي أساس العديد من المشروعات العمرانية من المباني السكنية والتجارية إلى الطرق والجسور، حيث تعتبر حجر الزاوية في صناعة البناء؛ فلا يكاد يخلو مشروع من استخدامها، وعلى الرغم من أهميتها في تطوير المجتمعات، فلا يمكن تجاهل تأثيراتها البيئية.
ذلك لأنَّ صناعة البناء تسهم في 37% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون -حسب تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة 2023- حينما تسهم صناعة الخرسانة في حوالي 8% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم. وهذه الأرقام تشير إلى حجم المشكلة البيئية التي قد تشكلها هذه الصناعة، كما تُبرز أهمية التقنية الجديدة، حيث يمكن تحويل الخرسانة من مجرد مادة تُستخدم في البناء إلى عنصر فعال في مكافحة التغير المناخي.
خطوات التنفيذ
من أجل تنفيذ هذه الفكرة يركز الباحثون على تطوير أساليب مبتكرة لتعديل التركيبة الأساسية للخرسانة، بهدف دمج مواد جديدة تمتلك قدرة عالية على امتصاص ثاني أكسيد الكربون، وحبسه داخل بنية الخرسانة.
ومن الجدير بالذكر أن استبدال بعض المكونات التقليدية للخرسانة بمواد قادرة على امتصاص الكربون يمكن أن يسهم في إزالة ما يقارب 13.1 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي سنويًّا، مما يساعد -بشكل فعال- على تقليل انبعاثات الكربون العالمية.
وبالإضافة إلى ذلك، توصل الباحثون إلى طريقة أخرى تتمثل في حقن ثاني أكسيد الكربون في الخرسانة أثناء تصنيعها، بحيث يتفاعل الغاز مع المواد الكيميائية في الأسمنت، مما يؤدي إلى تكوين كربونات الكالسيوم المستقرة.
وهذه العملية ليست جديدة على الطبيعة، حيث تحدث الكَرْبَنَةُ في الصخور بشكل طبيعي، غير أنها في هذه الحالة تحدث بشكل أسرع بكثير؛ ولذا يمكن القول إن هذه الاستراتيجيات تمثل خطوة نحو تحسين الكفاءة البيئية للخرسانة، وهي تعزز من قوتها ومتانتها في الوقت نفسه.
فوائد تقنية تخزين الكربون
تساعد تقنية تخزين الكربون بشكل كبير على تقليل الانبعاثات الضارة، فبين 85% و94% من ثاني أكسيد الكربون المحقون في الخرسانة يتم احتجازه بشكل دائم وآمن، وهذه النسبة المرتفعة من الامتصاص تحول الخرسانة إلى خزانات ثابتة لثاني أكسيد الكربون، مما يُسهم بشكل كبير في تقليل تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي.
كما أن هذه العملية تعزز من قوة الخرسانة نفسها؛ وذلك لأن التفاعل الكيميائي الذي يحدث بين ثاني أكسيد الكربون والمُركبات الكيميائية في الخرسانة يسهم في تحسين متانة الخرسانة وزيادة عمرها الافتراضي، وبذلك يتحقق لنا تقليل الانبعاثات الكربونية، وتحسين جودة المادة المستخدمة في البناء.
وتجدر الإشارة إلى أن فوائد هذه التقنية تتجاوز حدود تقليل انبعاثات الخرسانة لتصل إلى مستوى أكبر؛ إذ بتطبيقها على نطاق صناعي واسع يمكن خفض الانبعاثات العالمية الناتجة عن صناعة الأسمنت بشكل كبير، فمن خلال حقن ثاني أكسيد الكربون في الخرسانة يمكن تخزين حوالي 600 جرام من ثاني أكسيد الكربون لكل متر مكعب من الخرسانة، وبما أن إنتاج الخرسانة على مستوى العالم يصل إلى 30 مليار طن سنويًّا، فإن هذه التقنية تُظهر إمكانات هائلة في تقليل الانبعاثات الكربونية.
التحديات
على الرغم من كل الفوائد التي تقدمها هذه التقنية، فإن هناك عدة تحديات تواجه تطبيقها على نطاق واسع، ولعل من أبرز هذه التحديات تأمين مصدر دائم وفعال لثاني أكسيد الكربون؛ لأن هذه التقنية تعتمد على وجود مصادر موثوقة من ثاني أكسيد الكربون.
ومن التحديات أيضا أن صناعة البناء تُعرف بترددها في تبني المواد الجديدة، وهذا يُشكل تحديًا كبيرًا عند محاولة إدخال مواد جديدة تحتوي على ثاني أكسيد الكربون، خاصةً في التطبيقات التي تتطلب متانة هيكلية عالية، مثل المباني الشاهقة والجسور؛ ولذلك قد يبدأ استخدام هذه المواد في التطبيقات الأقل خطورة، مثل الأرضيات والممرات والعزل، حيث تكون المخاطر الهيكلية أقل.
مستقبل خزانات الكربون
تُعد تقنية تخزين ثاني أكسيد الكربون في الخرسانة خطوةً واسعةً نحو بناء مستقبل أكثر استدامة، وقد حظيت بدعم كبير من الحكومات والمنظمات الدولية؛ فعلى سبيل المثال أعلنت وزارة الطاقة الأمريكية عن تخصيص 101 مليون دولار لدعم تطوير مراكز لاختبار التقنيات الخاصة بالتقاط ثاني أكسيد الكربون وتحويله إلى صناعة الأسمنت، مما يشير إلى اعتراف عالمي بأهميتها وتفاؤل كبير بمستقبلها.
في الختام، تدرك حماة الأرض أنَّ تحقيق التوازن بين التطور العمراني والحفاظ على البيئة يتطلب خطوات جريئة ومبتكرة؛ فمن خلال تقنيات التقاط ثاني أكسيد الكَربون وتخزينه في الخرسانة، نفتح بابًا جديدًا نحو تخطيط عمراني ومجتمعات أكثر استدامةً.