علوم مستدامة

مادة ثورية جديدة تحول أشباه الموصلات إلى الاستدامة

مادة ثورية جديدة

مادة ثورية جديدة تحول أشباه الموصلات إلى الاستدامة

أشباه الموصلات هي مواد نجدها في قلب كل الأجهزة الإلكترونية من حولنا، مثل التليفزيونات والهواتف المحمولة، ودونها لنْ تتمكن أجهزة الكمبيوتر لدينا من معالجة البيانات، ولا الاحتفاظ بها، وستفقد مصابيح LED -على سبيل المثال- قدرتها على التألق، هذا بخلاف ألواح الطاقة الشمسية التي تعتمد على أشباه الموصلات بشكل كبير.

أشباه الموصلات هي مواد تتميز بمجموعة من الخصائص الفريدة، مِن أهمها انتقال التيار الكهربائيّ خلالها بصعوبة؛ مما يعني أنه يمكن التحكم -بشكل يسير- في هذا التيار عن طريق إضافة مواد أخرى إلى شبه الموصل، وهو ما فتح المجال لثورة إلكترونية وحاسوبية غير مسبوقة، وجعل صناعة أشباه الموصلات أمنًا قوميًّا للدول العظمى.

وعلى الرغم من أنَّ مكونًا بسيطًا مثل الرمل (السيليكون) هو المادة الأكثر استخدامًا لتصنيع أشباه الموصلات، فإننا نجد أنَّ عمليةَ التصنيع هذه ليست بالبساطة نفسها، حيث تستهلك كميات هائلة من الطاقة؛ لأجل الوصول إلى درجات حرارة مرتفعة تفوق 1500 درجة مئوية. أضفْ إلى هذا عمليات استخراج ونقل المواد الخام التي تدخل في صناعة أشباه الموصلات من مواطنها الأصلية إلى الدول المصنعة، التي تستغرق أسابيع، بل شهورًا عديدةً.

ما سبق جعل المجتمع العلميّ نَهِمًا للوصول إلى طريقة مستدامة لتصنيع أشباه الموصلات؛ لأجل تحقيق الأهداف التنموية في عالمنا المعاصر، بالإضافة إلى تحقيق الاستدامة في الوقت ذاته. ولعل أبرز جهود المجتمع العلميّ الأخيرة في هذا السياق هو مادة “الحبر متعدد العناصر – Multielement ink”، التي سنحاول تسليط الضوء عليها بقدر من التفصيل في هذا المقال.

كيف تعمل أشباه الموصلات؟

في الموصلات المعدنية التقليدية ينتقل التيارُ عن طريق حركة الإلكترونات من نقطة إلى نقطة، وهي عملية تعتمد على الخصائص التوصيلية لكل مادة، ويكون التحكم في هذه الحركة محدودًا. أمَّا في أشباه الموصلات فينتقل التيار الكهربائيّ عن طريق حركة سيل من الإلكترونات تتجه إلى القطب الموجب، مصحوبةً بسيل من الفجوات – holes (ذات شحنة موجبة) في خلال البناء الذريّ للمادة، وتتجه إلى القطب السالب.

ما سبق لا يمكن أنْ يحدثَ في الصور النقية لعناصر أشباه الموصلات مثل السيليكون، حيث تترابط ذراتُها بروابط تساهمية مستقرة؛ لذا يتم إدخال شوائب من عناصر أخرى محددة، حتى تصبح أشباه الموصلات هذه قادرةً على توصيل التيار، وهذا في عملية تُعرف باسم التطعيم – Doping.

هذه الشوائب التي نذكر منها عنصرَي الفوسفور والبورون، ترتبط -على سبيل المثال- بذرات السيليكون، محدثةً مجموعةً من الفجوات (أماكن فارغة في المدار الخارجيّ للذرات)، وهو ما يستحث حركة الإلكترونات -بشكل عامٍّ- في النظام، وكذلك حركة هذه الفجوات الموجبة.

مادة ثورية جديدة

الميزة الفريدة في طريقة عمل أشباه الموصلات، أنه يمكننا ترويض التيار الكهربائيّ والتحكم فيه؛ فنصبح حينئذٍ قادرينَ على تطويع الكهرباء في مختلف التطبيقات، وهذا عن طريق اختيار نوع المادة شبة الموصلة، وتحديد الشوائب بالكمية المناسبة.

اختراق علميّ جديد

الحبر متعدد العناصر هو مادة يمكن أنْ تجعلَ عمليةَ تصنيع أشباه الموصلات أقل في استهلاك الطاقة الحرارة؛ وبالتالي أكثر استدامةً. وقد تَمَّ تطويرُ هذا النوع من أشباه الموصلات من قِبل باحثينَ في مختبر لورانس بيركلي الوطنيّ وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وهو أول شبه موصل “عالي الإنتروبيا” تمكن معالجته عند درجات حرارة منخفضة تصل إلى درجة حرارة الغرفة، وقد نُشِرَ هذا الاختراقُ العلميّ مؤخرًا في مجلة Nature.

وقال “بيدونج يانج” كبيرُ باحثِي الدراسة: “إنَّ الطريقةَ التقليديةَ لصنع أشباه الموصلات تستهلك كثيرًا من الطاقة، وواحدة من المصادر الرئيسية لانبعاثات الكربون”. مِن الجدير بالذِّكْرِ، هو أنَّ “يانج” أحد كبار العلماء بقسم علوم المواد في مختبر بيركلي، وأستاذ الكيمياء وعلوم المواد والهندسة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي.

هذا الاختراق العلميّ يستند إلى عائلتين فريدتين من المواد شبه الموصلة: السبائك الصلبة المصنوعة من أشباه الموصلات ذات الإنتروبيا العالية، وبلورات هاليد البيروفسكيت الناعمة والمرنة.

مادة ثورية جديدة

المواد ذات الإنتروبيا العالية هي مواد صلبة مصنوعة من خمسة -أو أكثر- عناصر كيميائية مختلفة، تتجمع ذاتيًّا (Self-assemble) بنسب شبه متساوية في نظام واحد. ولسنوات عديدة أراد الباحثون استخدام مواد عالية الإنتروبيا؛ لتطوير مواد شبه موصلة تتجمع ذاتيًّا بأقل قدر من مدخلات الطاقة. والتجمع الذاتيّ نقصد به أنَّ جزئيات العناصر تقوم مع بعضها بعضًا بأخذ ترتيب بشكل محدد دون أيّ تدخل خارجيّ.

خصائص فريدة لهاليد البيروفسكيت

لوقت طويل، لم تحظ أشباه الموصلات ذات الإنتروبيا العالية بالقدر الكافي من الدراسة والاهتمام في الوسط العلميّ في العقود الماضية، وهي مشكلة كبيرة في حد ذاتها، هذا بخلاف أنَّ السبائكَ التقليديةَ ذات الإنتروبيا العالية -على الرغم من أنها تتطلب طاقةً أقل بكثير من السيليكون لأجل التصنيع- ما تزال تتطلب درجات حرارة عالية جدًّا تزيد عن 1000 درجة مئوية، وهو ما يجعل الاعتماد عليها في عمليات التصنيع على نطاق تجاريّ تحديًا صعبًا.

وللتغلب على هذا التحدي، استفاد “يانج” وفريقه من الصفات الفريدة لمادة هاليد البيروفسكيت، التي خضعت لدراسات عديدة مسبقًا؛ نظرًا إلى استخدامها في ألواح الطاقة الشمسية.

تتم معالجة البيروفسكيت -بسهولة- من المحلول عند درجات حرارة منخفضة، تتراوح بين درجة حرارة الغرفة وحتى 150 درجة مئوية؛ وهو ما يعني عدم الحاجَةِ إلى استهلاك كميات كبيرة من الطاقة الحرارية لمعالجة هذه المادة الفريدة، مما يعني تقليل تكلفة تصنيع أشباه الموصلات، بالإضافة إلى جعل هذه الصناعة الحيوية أكثر استدامةً.

وفي هذه الدراسة الجديدة، استفاد “يانج” وفريقه من متطلبات الطاقة المنخفضة؛ لإنتاج البلورات المنفردة من هاليد البيروفسكيت عالي الإنتروبيا من محلول في ظروف درجة حرارة معتدلة. وأوضح “يانج” أنه بسبب طبيعة ترابطها الأيونيّ تتطلب الهياكل البلورية لهاليد البيروفسكيت طاقةً أقل بكثير لتكوينها، مقارنةً بأنظمة المواد الأخرى.

وقد أكدتِ التجاربُ التي أُجريت في مختبر بيركلي أنَّ البلورات الناتجة ثمانية السطوح والمكعبة السطوح هي -بالفعل- بلورات أحادية من هاليد البيروفسكيت عالية الإنتروبيا، وتتنوع هذه البلورات في تركيبها؛ فبعضها مكون من خمسة عناصر، وبعضها الآخر مكون من ستة عناصر، ويتراوح قطر البلورات بين 30 – 100 ميكرومتر. (الميكرومتر هو جزء من مليار من المتر، وهو ما يعادل حجم ذرة الغبار تقريبًا).

أشباه موصلات مستدامة

هذه الطريقة الجديدة في إنتاج أشباه الموصلات أحادية البلورة في درجات الحرارة العادية، تحدث في خلال بضع ساعات من خلط المحلول؛ ومِن ثَمَّ ترسيب البلورات، وهي أسرع بكثير من تقنيات تصنيع أشباه الموصلات التقليدية.

مِن الجدير بالذِّكْرِ، هو أنَّ هاليد البيروفسكيت كان في السابق يعاني مشكلاتٍ في الاستقرار عند درجات الحرارة المحيطة، وهو ما جعل عملية تصنيعه على نطاق تجاريّ غير ممكنة لسنوات عديدة، إلا إنَّ هاليد البيروفسكيت عالي الإنتروبيا قد فَاجَأَ فريقَ البحثِ باستقرارٍ مثيرٍ للإعجاب في الهواء المحيط، يدوم ستة أشهر على الأقل!

وقال “يانج”: إنَّ الحبرَ متعدد العناصر هذا يمكن أنْ يدخل في عدد من التطبيقات المحتملة، لا سيما مصابيح LED متعددة الألوان، وغيرها من أجهزة الإضاءة، كما يمكن أنْ تكون هذه المادة بمنزلة مكون قابل للبرمجة في أجهزة الحوسبة الضوئية، التي تستخدم الضوء لنقل البيانات أو تخزينها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى