طريقة مبتكرة لاستعادة الذهب من المخلفات الإلكترونية باستخدام شِرْشِ اللبن
طريقة مبتكرة لاستعادة الذهب من المخلفات الإلكترونية باستخدام شِرْشِ اللبن
تمكن باحثو المعهد الفيدراليّ السويسريّ للتكنولوجيا في زيورخ “ETH Zurich” من استخراج معدن الذهب من النفايات الإلكترونية. تعتمد طريقتهم الجديدة، التي وصفوها بأنها “مستدامة للغاية”؛ على إسفنجة ليفية بروتينية، يشتقها العلماء من شِرْشِ اللبن (Whey)، وهو السائل المتبقي (المفصول) من اللبن أو الزبادي، ويُعتبر أحد النواتج الثانوية لصناعات الجبن ومنتجات الألبان.
كانتِ البشريةُ خلال قرون طويلة من الزمن في العصور القديمة، مهوسةً بإيجاد طرق لتحويل المواد الأساسية إلى ذَهَبٍ، وهو الأمر الذي تمخض عنه خرافة “حجر الفلاسفة”، الذي قيل: إنَّ بإمكانه تحويل المواد الرخيصة مثل الرصاص إلى المعدن النفيس. ولكن، ماذا لو قلنا لكم إنَّ هذه الخرافة أصبحت اليوم -بشكل أو بآخر- واقعًا؟! بالطبع ليس عن طريق تحويل الرصاص إلى ذهب، وإنما عن طريق استخراج المعدن الأصفر من المخلفات الإلكترونية.
تحتوي المخلفات الإلكترونية على مجموعة متنوعة من المعادن الثمينة، بما في هذا النحاس والكوبالت، وحتى كميات كبيرة من الذهب؛ لذا تُعدُّ استعادة هذه المعادن من مخلفات مختلف الأجهزة الإلكترونية أمرًا منطقيًّا؛ نظرًا إلى الطلب المتزايد على هذه المعادن من ناحية، ومن ناحية أخرى تخليص البيئة من مئات الآلاف من أطنان هذه المخلفات، التي يمكنها أنْ تسبب عديدًا من التأثيرات البيئية الحادة.
تحويل المخلف إلى مورد
في ظل اكتساب مصطلحات مثل “الاقتصاد الدائريّ” و”التنمية المستدامة” زخمًا كبيرًا في السنوات الماضية، أصبحت جميع الصناعات مطالَبةً بإيجاد حلول خضراء تراعي خفض البصمة الكربونية إلى الحدود الدنيا، مع تعظيم عمليات إعادة التدوير وإعادة الاستخدام، وتقليل عمليات الإنتاج من المواد الخام البكر.
نتيجةً لذلك، ظَهَرَ العديدُ من طرق إعادة التدوير في مختلف الصناعات، بما فيها صناعة الإلكترونيات، تلك الصناعة المسئولة عن تلبية احتياجات مستمرة ومتنامية للمستخدمين، في ظل عصر رقميّ يشهد معدلات استهلاكية غير مسبوقة، وهو الأمر الذي لَفَتَ الانتباه إلى المخلفات الإلكترونية، التي يمكن استغلالها لتحقيق عدد من أهداف التنمية المستدامة، أبرزها الهدف الثاني عشر: الاستهلاك والإنتاج المسئولان.
ومع ذلك، فإنَّ الطرقَ التي تم ابتكارها وتطويرها حتى الآن لاستعادة المعادن من المخلفات الإلكترونية – تستهلك طاقةً كثيرةً، وتتطلب -غالبًا- استخدام مواد كيميائية شديدة السمية، وهو ما قد يجعل عمليةَ إعادة تدوير هذه المخلفات غير مجدية اقتصاديًّا وبيئيًّا. المشكلة السابقة دفعت مجموعة من الباحثين في المعهد الفيدراليّ السويسريّ للتكنولوجيا -بقيادة البروفيسور “رفائيل ميزنجا”- إلى إيجاد حل مستدام لها.
وضع الفريق البحثيّ في مقدمة أولوياته إيجادَ طريقة فعَّالةٍ من حيث التكلفة، وفي الوقت نفسه تتجنب استخدام المواد الكيميائية السامة؛ بهدف إيجاد طريقة فعَّالة لإعادة تدوير المخلفات الإلكترونية. وقد نجحوا في تحقيق هذا بواسطة طريقة مبتكرة تستخدم إسفنجةً مصنوعةً من مصفوفة بروتينية، وهو ما سنناقشه في السطور القادمة.
الامتزاز الانتقائيّ للذهب
لتصنيع الإسفنجة التي أشرنا إليها، قام “محمد بيدايش” -أحد كبار العلماء في المجموعة البحثية- بإعادة تشكيل بروتينات شرش اللبن تحت ظروف حامضية ودرجات حرارة عالية، للحصول على كتلة هلامية من الألياف البروتينية النانوية، ثم قاموا بتجفيف هذه الكتلة للحصول على الإسفنجة المطلوبة.
لكن، ما دور هذه الإسفنجة في استعادة الذهب من المخلفات الإلكترونية؟ تقوم الإسفنجة بتوفير السطح المناسب لامتزاز ذرات الذهب. ولمَن لا يعلم، فالامتزاز (Adsorption) يمثل ظاهرةً يتم فيها تراكم ذرات أو جزيئات مائع (غاز أو سائل) يُطلَقُ عليه المادةُ المُمْتَزَّةُ (Adsorbate)، على سطح مادة أخرى صلبة تُعرَفُ باسم المادةِ المَازَّةِ (Adsorbent). وبتطبيق ما سبق على البحث محل الحديث، تكون ذرات الذهب هي المادة الممتزة، وتكون الإسفنجة هي المادة المازة.
في البدء قام الفريق البحثيّ بإذابة الأجزاء المعدنية الموجودة في عدد 20 لوحةَ أُمٍّ (Motherboard) من أجهزة كمبيوتر قديمة في محلول حمضيّ؛ وهذا بهدف تحويل جزئيات المعادن المختلفة إلى أيونات (عملية التأين). بعد ذلك قاموا بوضع الإسفنجة المصنوعة من الألياف البروتينية في المحلول السابق؛ لامتزاز أيونات الذهب، حيث تتمتع أيونات الذهب بكفاءة أكبر في الالتصاق بألياف البروتين، مقارنةً بالمعادن الأخرى.
في الخطوة التالية قام الباحثون بتسخين الإسفنجة، لغرض تحويل أيونات الذهب إلى رقائق صغيرة؛ ليقوموا بعد ذلك بإذابة هذه الرقائق، وتكوين كتلة صلبة تحتوي على نسبة 91% من الذهب و9% من النحاس، وهو ما يعادل الذهب عيار 22 قيراط. ومِن الجدير بالذِّكْرِ، هو أنَّ الكميةَ المستعادةَ من الذهب من كمية 20 لوحةَ أُمٍّ كانت 450 ملليجرامًا.
جدوى اقتصادية جذابة
من الناحية الاقتصادية، تُظهر حساباتُ “ميزنجا” أنَّ هذه التكنولوجيا الجديدة يمكن تطبيقها على نطاق تجاريّ، حيث إنَّ تكلفةَ شراء المواد اللازمة بالإضافة إلى تكلفة الطاقة المستخدمة في جميع مراحل العملية لا تتعدى نسبة 50% من قيمة الذهب الذي تُمكِنُ استعادتُه؛ ما يعني أنَّ الطريقةَ الجديدةَ مجديةٌ اقتصاديًّا.
وعلى الرغم من أنَّ إعادةَ تدوير المخلفات الإلكترونية هي الهدف الأساسيّ من هذه العملية، فإنَّ الباحثينَ ينظرون في مصادرَ أخرى لاستعادة الذهب، بما في هذا النفايات الصناعية الناتجة عن تصنيع الرقائق الدقيقة (microchip)، أو من عمليات الطلاء بالذهب. بالإضافة إلى ذلك، يخطط العلماء للتحقق مما إذا كان بإمكانهم تصنيع إسفنجات ليفية بروتينية (وسائط امتزاز) من منتجات ثانوية أخرى غنية بالبروتين، عن طريق النظر في مخلفات صناعة الأغذية.
تكمن براعةُ هذه الطريقة الجديدة في استعادة الذهب من المخلفات الإلكترونية في اعتمادها على منتج ثانويّ من صناعة المواد الغذائية؛ ما يعني أنه يتم تحويل مُخلَّفينِ من صناعتينِ مختلفتينِ إلى ذهبٍ، وهي عملية تُمثل روحَ الاقتصاد الدائريّ، وتحقق عديدًا من أهداف التنمية المستدامة.
وفوق كل ذلك، ستساهم هذه الطريقة في خفض الطلب على المعادن البكر، بخاصة الذهب؛ وبالتالي خفض البصمة الكربونية للصناعات الإلكترونية، وتقليل الاعتماد على عمليات التعدين -المجهِدة للبيئة- بشكل أساسيّ.